المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العولمــــــــة والأدـــــــــــــــــــــــــب !!!!!


THE KING
2009-02-12, 08:14 AM
الشعر العربي المعاصر
بين جاذبية التراث وإغواء الآخر



إذا كانت مواجهة الآخر خاضعة –في زمن مضى- لاعتبارات يمكن معها الاستفادة من حيز واسع للاختيار، فإن العالم اليوم، بما حققه من تقدم تكنولوجي ومعلوماتي مذهل، يجعلنا دوما في مواجهة الآخر، أيا كان الموقع الذي نتخذه.
هذه المواجهة، إذا كانت سريعة النتائج في المجال العلمي، فإن تفاعلاتها في المجال الفني، بصفة عامة، بطيئة نسبيا، كون التحولات في هذا المجال تحتاج زمنا قد يطول ويقصر، وذلك بسبب خصوصية الفن، وخضوعه في حركته إلى حركة المجتمع نفسه.
إن تلاقي الثقافات، واحتضان بعضها لبعض، وصراع بعضها مع بعض، مظهر طبيعي في الثقافة الإنسانية، وإن كانت وتيرته اليوم أسرع، فعلى صعيد "الأدب" يمكن الإشارة إلى حركتي التأثير والتأثر بين الثقافتين الشرقية والغربية، وداخل هاتين الثقافتين أيضا كانت هناك على الدوام تيارات أدبية تنتقل من بلد إلى آخر، على الرغم من خصوصية كل بلد.
فعمر الخيام مثلا (وهو المنتمي إلى الثقافة الفارسية)، كان له تأثيره الكبير في أوروبا التي عرفته شاعرا أقرب في تفكيره ومذهبه في الحياة إلى الوجودية، وأصبح الخيام، بفضل ترجمة رباعياته إلى لغات عالمية كثيرة، ضمن التراث الأدبي العالمي.(1)
كما أن تأثير كتاب "ألف ليلة وليلة" في الآداب الغربية أظهر من أن يفصل فيه الحديث.
وداخل دائرة الآداب الغربية نفسها نلاحظ انتقال الأفكار والمبادئ من قطر إلى قطر، ولعل في المذهب الرمزي مثالا جيدا على ذلك. فالمذهب الرمزي في الشعر الذي ينسب إلى أعلامه الفرنسيين: بودلير، مالارميه، رامبو..الخ، كان بتأثير من الكاتب الأمريكي إدجار ألانبو، فقد كان بودلير ومالارميه معجبين كبير الإعجاب بنظريته الشعرية التي وضحها في محاضرة بعنوان "المبدأ الشعري" (ألقاها عام 1948)، حيث أشار إلى أن الإنسان ينقسم إلى ثلاث قوى:


1-العقل: ويعنى بالصدق
2-الضمير: ويعنى بالواجب
3-النفس: وتعنى بالجمال، ولذا فإنها هي المسؤولة عن الشعر الذي غايته الكشف عن الجمال، ولا علاقة له بالأخلاق والحق.



وقد أراد "بو" أن يتجاوز العالم الظاهري إلى عالم آخر حيث الجمال العلوي، وقد ظهر إعجاب بودلير بهذه النظرية في اتخاذه الجمال المثالي عالما له، كما كان عالم مالارميه السماء الزرقاء (2).



ولا يقف امتداد المذهب الرمزي عند هذا الحد، فهذا الشاعر الإيرلندي "وليم بتلربيتس" يظهر في شعره أثر الرمزية واضحا، وقد عرف مالارميه، ثم ازداد اتصالا بالرمزية الفرنسية عن طريق مطالعة المترجم من آثارها.



لكن رمزية "ييتس" تظل مصطبغة بخصائص بلاده القومية(3). وأحيانا نجد تأثر الغربيين يمتد خارج قارتهم، كما حدث مع الشاعر "عزوا باوند" الذي كان يتخذ نماذجه أحيانا من الشعر الصيني (4). كما أن واحدا مثل أرشيبالد مكليش لا يخفى تأثره بآراء الشعراء الصينيين في عملية الخلق الشعري (5).



إن النماذج السابقة تبين أن عملية التأثر بالآخر عملية طبيعية لتطوير عملية الإبداع، وتنويعها، وفي هذا الإطار ننظر إلى تأثر الأدباء والشعراء العرب بالغرب، غير أن قضية هامة تطرح نفسها في هذا المقام، وتتمثل في الموقع الذي يتخذه المتأثر بالآخر، من هذا أولا ومن تراثه (في معناه الواسع) ثانيا.



لقد أكد طه حسين أن لا مناص لنا من الإحاطة بمعارف الآخر/الغرب، وفي هذا الصدد يشير على سبيل التمثيل إلى أن فهم التاريخ المصري خاصة والإسلامي عامة لا يمكن له أن يتحقق إلا بفهم التاريخ اليوناني، وعلى مؤرخ الأمم الإسلامية أن يتقن ذلك التاريخ ليعرف أوجه التأثير في الحياة العقلية والاجتماعية(6): ولذلك لم يتوقف طه حسين عن تقديم نماذج مختارة لقراء العربية من الأدب التمثيلي عند اليونان (اسخليوس، سوفكل)، إضافة إلى المحاضرات التاريخية التي نشرت في صفيحة "الجامعة"(7).



بيد أن ما يميز طه حسين ومجموعة أخرى من المفكرين هو أنهم استطاعوا أن يقوموا برحلة إلى جوهر التراث الأوروبي، وأن يعودوا من تلك الرحلة ممتلئين بالحكمة ومحافظين على ذواتهم واتصالهم بواقعهم العربي المعاصر(8).



وهذه الضرورة إلى الأخذ عن الغرب يقرها صلاح عبد الصبور صراحة حين يقول: "فنحن ننمو ذوقيا وعقليا في هذا الزمن الحديث، وقد وقر في أذهاننا ألاّ خلاص لنا إلا بإدراك ما عليه هؤلاء القوم [الأوروبيون] من علم وفن وذوق"(9).



إن هذا الموقف لصلاح عبد الصبور يأخذ أهميته من كونه صادرا عن أحد رواد الشعر الحر، والمسرح الشعري في أدبنا المعاصر، وهذا الموقف من الآخر يقابله موقف صريح من التراث، إذ يقول عبد الصبور: "لا يصلب أدبنا الحديث وتستقيم مفاهيمه إلا إذا واجهنا تراثنا مواجهة شجاعة فألقيناه من فوق ظهورنا، ثم تأملناه لنأخذ منه ما يصلح لنا في مستقبل أيامنا"(10).



إن تأثر شعرنا المعاصر بالآداب الغربية علامة بارزة في مسيرة هذا الشعر. فإليوت مثلا كان له عظيم الأثر في صلاح عبد الصبور، والسياب، ومحمود درويش، وغيرهم، كما تنوعت المناهل العربية للشعراء العرب بين رومانسية، وواقعية، وسوريايلية، ورمزية، ولا أحد ينكر دور كل ذلك في التطور الكبير الذي حققه الشعر العربي المعاصر.
ولأن الحديث عن تعاملنا مع الآخر يستدعي الحديث عن موقفنا من تراثنا، فإنه يحسن بنا الإشارة إلى مواقف الشعراء العرب من تراثهم.



لقد تعرض نعيم اليافي إلى تلك المواقف فأجملها في أربعة(11):
1-الهرب إلى التراث: وهو موقف يبدأ بالمدرسة الإحيائية (البارودي وأضرابه)، ويستمر إلى ما يعرف بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة في الشعر العربي (من هؤلاء الأخطل الصغير، وعمر أبو ريشة).
2-الهرب من التراث: وتمثله، فنيا، المدرسة الرومانسية كبداية، والمدرسة الحداثية كتجل أخير، وهو يتخذ مظهرين اثنين:
أ-الهجوم على التراث.
ب-الإشادة بالبديل، الذي هو الحضارة الغربية عند أصحاب هذا الموقف، وعلينا، حسب هؤلاء، إذا أردنا أن نحيا عصرنا أن نسير على خطى الأوروبيين، ونعتنق مبادئ فكرهم على اختلافها، لأنها مبادئ ذات طابع كوني شمولي.
3-الهرب بالتراث: ويطلق هذا الموقف على محاولات بذلت في إطار الحركة الرومانسية وما تلاها، وكانت كلها تطمح إلى التوفيق بين الدعوة إلى التجديد، وبين محافظتها على التراث، بيد أن تلك المحاولات اتسمت غالبا بالفشل على مستوى التطبيق، إذ ظهر التناقض واضحا بين هذا المستوى والطرح النظري، وضمن هذا الموقف تدخل محاولات مطران خليل مطران، والمدرسة المهجرية، وجماعة الديوان، وجماعة أبو للو.
4-استدعاء التراث(12): وهو موقف يختلف عن المواقف السابقة، ويمكن اختلافه عن الموقف الأول في كونه لا يجعل من التراث مجرد مسلمات علوية، بينما يختلف عن الموقف الثاني في عدم نظره إلى التراث على أنه قيم بالية يجب علينا رفضها جملة وتفصيلا.
في حين يظهر تباين الموقف الرابع مع الموقف الثالث في أن ذاك لا يرى في التراث الشكل للتعبير الشعري الذي علينا أن نصب فيه تجاربنا وأحاسيسنا، كما هو شأن أصحاب الموقف الثالث.


إن أصحاب الموقف الرابع يرون في التراث مجموعة من التجارب والتساؤلات التي وقف إزاءها أسلافنا مواقف معينة كتب لبعضها الاستمرار، بينما اندثر البعض الآخر وطواه التاريخ، وبهذه النظرة يصبح التراث "عامل إلهام وبؤرة تجذر وانفتاح".
إنه موقف وسط يراعي التركيب بين الحاجة إلى التراث والحاجة إلى الآخر، ولذلك فإنه يلبي حاجات الواقع المتحرك بدلا من الاتجاه نحو الماضي وإما نحو الغرب(13).


إن هذا الموقع الوسط هو الذي يتخذه أدونيس في بعض دراساته الأخيرة حين يقول: "بدأت أبحث عن طريق مغايرة لا تنفي هاجس المستقبل، ولا تنفي الماضي بإطلاقه"(14).


إن الانفتاح على الآخر صار في عصرنا أمرا إجباريا بسبب تسارع وتيرة التطور في الميادين المختلفة وتشابك العلاقات بين مختلف أقطار المعمورة، وفي خضم ذلك كله يصبح تحديد موقعنا بين الذات والآخر في حاجة إلى كثير من الوعي بهذه الذات وذلك الآخر.