المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ركــــــــ الشـــــ (أمـــل دنقل) ــــــاعر ــــــــــن


THE KING
2009-02-19, 01:20 PM
المحتويات


1- تعريف بالشاعر

بعض المقالات المميزة عن حياة الشاعر

2-الأعمال الشعرية



• البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
• من أوراق "أبو نوّاس"
• الآخرون دائما
• لا تصالحْ!
• الزيارة
• الأرض .. و الجرح الذي لا ينفتح
• مقابلة خاصة مع ابن نوح
• مقتل القمر
• الخيول
• إلى صديقة دمشقية
• مزامير
• الطيور
• الجنوبي
• فى انتظار السيف
• سفر أ مل د نقل
• زهور
• خطاب غير تاريخي
• بكائيات
• سفر التكوين
• الوقوف على قدم واحدة!
• كلمات سبارتكوس الأخيرة
• ماريـّا
• قالت
• شيء يحترق
• تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات
• العينان الخضراوان
• خمس أغنيات إلى حبيبتي..!
• بكائية ليلية
• الـمـوت فـى الـفـراش
• العار الذي نتّقيه
• الملهى الصغير
• رسالة من الشمال
• الحداد يليق بقطر الندى
• شجوية
• ضد من ؟؟؟
• سفر الخروج
• الموت في لوحات
• صفحات من كتاب الصيف والشتاء
• استريحي
• أوتوجراف
• من مذكرات المتنبي



http://www.jehat.com/ar/amal/gif/image.jpg



أمل دنقل
"أمير شعراء الرفض"


ولد امل دنقل عام 1940 بقرية القلعه ,مركز قفط على مسافه قريبه من مدينة قنا في صعيد مصر,وقد كان والده عالما من علماء الازهر الشريف مما اثر في شخصية امل دنقل وقصائده بشكل واضح. سمي امل دنقل بهذا الاسم لانه ولد بنفس السنه التي حصل فيها ابوه على "اجازة العالميه" فسماه باسم امل تيمنا بالنجاح الذي حققه (واسم امل و شائع بالنسبه للبنات في مصر)

وكما ذكرت كان والده عالما بالأزهر الشريف وكان من ورث عنه أمل دنقل موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي,وأيضا كان يمتلك مكتبه ضخمه تضم كتب الفقه والشريعه والتفسير وذخائر التراث العربي مما اثر كثيرا في امل دنقل وساهم في تكوين اللبنه الاولى للاديب امل دنقل. فقد امل دنقل والده وهو في العاشره من عمره مما اثر عليه كثيرا واكسبه مسحه من الحزن تجدها في كل اشعاره.
رحل أمل دنقل الى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانويه في قنا وفي القاهره التحق بكلية الآداب ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الاول لكي يعمل. عمل أمل دنقل موظفا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفا بمنظمة التضامن الافروآسيوي,وكنه كان دائما ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر. كمعظم أهل الصعيد ,شعر أمل دنقل بالصدمه عند نزوله الى القاهرة في اول مره ,وأثر هذا عليه كثيرا في أشعاره ويظهر هذا واضحا في أشعاره الاولى. مخالفا لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات استوحى
أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي ,وقد كان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانيه خاصة. عاصر أمل دنقل عصر أحلام العروبه والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في1967 وعبر عن صدمته في رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامه"و مجموعته "تعليق على ما حدث ". شاهد امل دنقل بعينيه النصر وضياعه,وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام,ووقتها اطلق رائعته "لا تصالح"والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين ,ونجد ايضا تأثير تلك المعاهده و احداث يناير 1977 واضحا في مجموعته" العهد الآتي"." كان موقف امل دنقل من عملية السلام سببا في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصريه وخاصة ان اشعاره كانت تقال في المظاهرات على السن الآلاف. عبر أمل دنقل عن مصر وصعيدها وناسه ,ونجد هذا واضحا في قصيدته "الجنوبي" في آخر مجموعه شعريه له"اوراق الغرفه 8" . عرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" (1969) الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه.
صدرت له ست مجموعات شعرية هي:
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - بيروت 1969.
تعليق على ما حدث - بيروت 1971.
مقتل القمر - بيروت 1974.
العهد الآتي - بيروت 1975.
أقوال جديدة عن حرب البسوس - القاهرة 1983.
أوراق الغرفة 8 - القاهرة 1983.
أصيب أمل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من الأربع سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته "أوراق الغرفه 8"وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب ال 4 سنوات,وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته. لم يستطع المرض أن يوقف أمل دنقل عن الشعر حتى قال عنه
أحمد عبد المعطي حجازي ((انه صراع بين متكافئين ,الموت والشعر)) .

رحل أمل دنقل عن دنيانا في الحادي والعشرين من مايو 1983 لتنتهي معاناته في دنيانا مع كل شيء.




مقالات عن الشاعر



( 1 )

د / جابر عصفور لجريدة البيان

أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أبرز الشعراء العرب في عالم مابعد كارثة العالم السابع والستين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها، فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بماتنطوي عليه من انجاز ودلالة، ابتداء من ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) الذي لفت اليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى الى هزيمة يونية 1967، مرورا بديوان (تعليق على ماحدث) عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول،

وكذلك ديوان (العهد الآتي) الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر الى ذروة اكتمالها. وأخيرا ديوان (أوراق الغرفة 8) في عام 1983 وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، وأشرفت على طباعته بنفسي في (هيئة الكتاب) مع تقديمي له، وصدر بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته، وتولت عبلة الرويني الاشراف على طباعة ماأتمه من (أقوال جديدة عن حرب البسوس) الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة التي أشرفت عبلة الرويني على أكثر من طبعة لها.
هذه الأعمال القليلة، نسبيا، تنطوي على عالم توازى خصوصيته وأهميته في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي أعمال شاعر وصل بالمحتوى السياسي للشعر الى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية، وذلك الى الحد الذي يمكن أن نقول معه أن شعر أمل دنقل هو المجلى الحداثي للتمرد السياسي في الشعر العربي المعاصر. هذا التمرد قرين رؤية قومية دفعته الى اختيار رموزه من التراث العربي، والتعبير بها عن هموم العرب المحدثين، وذلك بما يجعل من هذه الرموز مرايا ينعكس عليها التاريخ الحديث بما يبين عن هزائمه خصوصا من الزاوية التي تبرز تضاده مع أمجاد الزمن العربي القديم، أو من الزاوية التي تبرز المشابهة بين انكسارات الحاضر وانهيارات الماضي وفجائعه. وقد اقترنت هذه العودة الى الرموز التراثية بصياغة أقنعته من الشخصيات التاريخية ذات الدلالات المضيئة في هذا التراث القادرة على اثارة الشعور واللاشعور القومي لجماهير القراء العرب.
ويتميز شعر أمل دنقل بخاصية بارزة تتصل بمحتواه القومي من هذا المنظور، فهو شعر يتحدث - في جوانبه الحاسمة - عن الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يجعله شعرا صالحا لهذه الأيام التي نعيشها في ظل الهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، كما يجعل منه شعرا جديرا بأن نسترجعه ونستعيده مع شعورنا الغالب بالوجع الفلسطيني، ومع احساسنا بالعجز عن الدفاع عن حقوقنا العربية واسترداد ماسلب منها. والحق أن شعر أمل دنقل تتكشف قيمته على نحو اضافي مع مانعانيه، ومع كل مايؤكد لنا صدق هذا الشعر في تعبيره عن الهزائم المتلاحقة التي يمر بها العرب، خصوصا بعد أن استغلت اسرائيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وأقنعت أمريكا بمساعدتها في محاربة الارهابيين الفلسطينيين. وأقبلت أمريكا على مساعدتها، غير عائبة بالتفرقة بين الارهاب الذي يقوم على دعاوي باطلة، وينتهي بتدمير كل شيء، والكفاح الوطني من أجل الاستقلال. وكانت النتيجة أن أصبح الفلسطينيون الذين يقاتلون من أجل استقلال وطنهم، ومن أجل استعادة حقوقهم السليبة، ارهابيين مطاردين من إسرائيل ومن راعيتها الكبرى أميركا.

هكذا، نعاني نحن العرب في هذه الأيام حالاً أشبه بحال الهزيمة، فإسرائيل تعربد في الاراضي المحتلة، وترتكب من المذابح مايندى له جبين الإنسانية، وما من قوة عربية تستطيع أن تواجهها، أو ترد على عدوانها، الأمر الذي ترك مرارة الهزيمة العربية على كل الألسنة. ولذلك لا يملك المرء سوى تذكر قصائد أمل دنقل عن الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا أن ذكراه التاسعة عشرة تلح في هذه الأيام، فقد توفى في الحادي والعشرين من مايو سنة 1983.

وأتصور أن القصيدة الأولى التي ترد على الذهن من شعر أمل، في هذا السياق هي قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) وهي قصيدة دالة في ادانتها للأنظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، ودالة على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة الجائعة من الخارج، ودالة على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن من الزاوية التي تجعل من بكائها تمردا على كل من تسببوا في هزيمتها.

والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام السابع والستين. جذبت الأنظار إليها والى شاعرها، وذلك عندما أعادت الى الاذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام السابع والستين فلم يصدقه أحد الا بعد أن حدثت الكارثة. واذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى امكانا للمستقبل الا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز مافي الحاضر من ثغرات.

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع الى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي هي مثله بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات التي تقول:

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والاعضاء
اسأل يازرقاء
... ...
كيف حملت العار
ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة.

هذا العبد الذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ولذلك اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي دعى الى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة،
شاهد على مايمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه الى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص.
ولذلك كان بكاء هذا العبد في حضرة زرقاء اليمامة، مثل شهادته، علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الحرية والديموقراطية عن قبائل (عبس) العربية، من العصر الجاهلي الى العام السابع والستين، حين كتبت هذه القصيدة، كما كان هذا البكاء تأبينا لزمن مضى، وإدانة لأخطاء زمن لم يخلف سوى الكارثة، وبحثا عن زمن يأتي بخلاص من هذه الكارثة.
وأعترف أنني كلما طالعت شاشات التليفزيون الأجنبية والعربية، ورأيت المذابح البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الشعب العربي الفلسطيني، في رام الله أو نابلس أو جنين أو طولكرم وغيرها من الأماكن الفلسطينية العزيزة، شعرت بالهزيمة والانكسار والعجز ووجدت نفسي استعيد الصوت الصارخ في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من عجزه ومحنته، ومضيت مثله أسأل عن السواعد المقطوعة التي ظلت ممسكة بالرايات العربية المنكسة، وعن جثث الأطفال ملقاه بين الخيام، وعن وقفة المرأة الفلسطينية بينما الدبابات الإسرائيلية تمضي فوق حطام منازلهم التي هدمتها القذائف الغادرة، فأقول لنفسي الى متى نحمل - نحن العرب - هذا العار؟ الى متى؟!


(2 )

أمل دنقل.. وميض تغتاله العتمة

خيري حسين - باحث مصري

محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل من مواليد قرية "القلعة" إحدى قرى مديرية "قنا" أقصى جنوب مصر، ولد في 1941 لأب يعمل مدرسًا للغة العربية متخرجًا في الأزهر.
كان والده في تنقل ما بين قرية "القلعة" وإحدى مدن "قنا"؛ فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة، يعمل بالتدريس، وحين تنتهي الدراسة يعود أدراجه بأسرته المكونة من ولدين وبنت، أكبرهم أمل وأصغرهم أنس.. وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد.
وكأن الألم هو الحضانة الأولى للعظماء، فلم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده. وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئمًا، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم وأصدقائهم.
ساعدهم على العيش "مستورين" أن الأب قد ترك لأولاده بيتًا صغيرا في المدينة يقطنون في طابق منه ويؤجّرون طابقًا آخر، كما عاون الأم في تربية أولادها أحد أقرباء زوجها كان بمنزلة عم "أمل".
حين التحق أمل بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى بها دراسته سنة 1952 عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛ فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه شخصية قوية ومنظمة.

آثار الطفولة
والمفارقة أنه حين وصل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية، وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة "العلمي" تمهيدًا لخوض غمار الدراسة الأكاديمية في تخصص علمي كالهندسة أو الكيمياء، لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا في تحوله المعاكس إلى الأدب والفن في هذه الفترة ؛ فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" –شاعر عاميه مصري- وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية، و"سلامة آدم" –أحد المثقفين البارزين- فيما بعد، وكان يمت له بصلة قرابة وكان رفيقه الأول في مرحلة الطفولة، وبعد اتفاقهما الدائم على الالتحاق بالقسم العلمي وجدهما قد فاجآه والتحقا بالقسم الأدبي، فوجد "الصغير" نفسه في حيرة شديدة، سرعان ما حُسمت إلى اللحاق بأصدقائه.

إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بعيدا عن مجال الأدب، فضلا عن الثقافة العربية؛ فقد نشأ في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل مدرسًا للعربية فحسب، ولكنه كان أديبًا شاعرًا فقيهًا ومثقفًا جمع من صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة؛ لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حينا ويكتب الشعر حينا.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.
وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون – من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته –في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله. ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته، فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.
أحلام وطموحات
ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن يلتقي بالشعراء الذين يرى أسماءهم على الدواوين الراسخة في مكتبته، وانصرف أمل عن أحلامه الدراسية وطموحاته العلمية إلى شيء آخر هو الشعر.
ومما نُشر لأمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956، وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:

يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد

وفي العدد التالي أفردت المجلة صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"، وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:
أريج من الخلد .. عذب عطر
وصوت من القلب فيه الظفر

وعيد لـه يهتف الشـاطئان
وإكليله من عيون الزهر...

ومصر العلا .. أم كل طموح..
إلى المجد شدت رحال السفر

وأمي فلسطين بنت الجـراح
ونبت دماء الشهيد الخضـر

يؤجـج تحنانهـا في القلوب
ضرامًا على ثائرها المستمر

وأمي كل بـلاد.... تثـور
أضالعـها باللظى المستطـر

تمج القيود.... وتبني الخلود
تعيـد الشباب لمجـد غبـر

فإن الدمـاء تزف الدخيـل
إلى القبر.. رغم صروف القدر

وتنسج للشعب نور العـلاء
بحـرية الوطـن المنتصـر


حصل على الثانوية العامة عام 1957، والتحق بكلية الآداب 1958. وقد ساعده ذلك على الإقامة في القاهرة لتتاح له فرصة جديدة ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله: "سيف في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983: "دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور".

وهذه قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما، وهو يعبر عن ذلك حين يقول:

كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا

وانفجر أمل في الشعر بهدوئه العجيب.. فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد؛ إذ رحل عنها 1959 إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا، لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا كأمل لوظيفة رتيبة مملة.. ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة، واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية.

أمل الثورة

ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛ حيث كانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح، ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد.. فإن ذلك لم يخدعه كآخرين، حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛ فقد سجل رفضها بعين الباحث عن الحرية الحية لا شعارها؛ ففتح نار سخريته عليها، فهو يرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها.. يقول أمل:

أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت

لم يستقر أمل دنقل في وظيفة أبدا فها هو يعمل موظفا في مصلحة الجمارك بالسويس ثم الإسكندرية، ويترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل دنقل الترحال، وربما ورثها من طفولته حال حياة والده، ولكن انغماسه في الشعر قوّى ذلك في نفسه، وجعله يتحلل من قيود المكان وقيود الوظيفة، فقد ترك دراسته في السنة الأولى الجامعية، وترك عمله بقنا، وها هو يترك السويس إلى الإسكندرية، بل يترك العمل الوظيفي ليعلن لنا بنفسه في أخريات حياته أنه لا يصلح إلا للشعر فيقول: "أنا لم أعرف عملا لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عمل آخر…" توصل أمل دنقل إلى ذلك قبل أفول نجمه بثلاثة أيام فقط.
وفي 1969 يصدر الديوان الأول لأمل دنقل بعنوان: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تأثرا بالنكسة، وبعده بعامين ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث"، ثم يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل؛ إذ هو لم يكتب شعرا يمجد هذا النصر حيث يصدر ديوانه الثالث: "مقتل القمر" 1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر، وفي 1975 يصدر ديوانه: "العهد الآتي".

عشق الترحال والحياة

وفي أحد أيام سنة 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني" التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة إنسانية حميمة، تتوج بالزواج 1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكنا، ولا يملك مالا يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.
ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري مميز فيكتب: "لا تصالح"، رافضا فيها كل أصناف المساومات، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل، ولكن أمل دنقل كُتب عليه صراع الواقع العربي الذي ما برح يكتب فيه حتى واجه بنفس قوية وإرادة عالية صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالا للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه.
وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" -أديب مصري- الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها.
وطلب أمل من أصدقائه التوقف عن حملة المساعدة. كان أمل لا يريد أن ينشغل أحد بمرضه، وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالمستشفى على علب الثقاب وهوامش الجرائد.. ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم: "أوراق الغرفة 8".
يموت الألم في أمل دنقل مع صعود روحه لبارئها، لكنه يترك تاريخا مضيئا بالشعر وآرائه السياسية التي كانت تصدر عنه بروح القادر ونفس الحر دون أن ينجرف إلى تيار معين يفسد عليه انتماءه للشعر.. ودون أن يترك حدثا بلا قول وخطر، بل وسخرية موجهة.



( 3 )

عن كتاب
"الجنوبي": سيرة دنقل بقلم زوجته

هيا صالح

رغم أن كتاب "الجنوبي.. أمل دنقل" يبدو للوهلة الأولى سيرة غيرية، إلا أن القارئ، بعد سبر أغواره، ومطالعة صفحاته التي تجاوزت 220 صفحة، يكتشف أنه، بالإضافة إلى ذلك، سيرة ذاتية لعبلة الرويني تحكي فيها تجربتها الشخصية في إطار حديثها عن تجربة أمل دنقل. تلك التجربة الواحدة التي امتزج فيها الاثنان معاً، بحياة تشكلت وفق إيقاعات متنوعة؛ صداقة، حب، زواج، عشق، تكوين عائلة. ولعل هذا الارتباط العميق الذي جمع الاثنين معاً، هو ما جعل نفسيهما نفساً واحدة، ومسيرتيهما مسيرةً واحدة أيضاً.
تتجلى القدرية في السيرة، من خلال حديث الرويني عن مجريات اللقاء الأول الذي جمعها بالشاعر الراحل أمل دنقل في أكتوبر العام 1975، في مقهى "ريش"، حيث كانت عبلة تنوي في بداية عملها بجريدة "الأخبار" إجراء حوار مع أمل، رغم معرفتها مسبقاً بصعوبة نشر هذا الحوار. كان دنقل شاعراً يسارياً، وهو ما أوضحه لعبلة أحد المحررين السياسيين في الجريدة قائلاً: "ربما يمكنهم نشره في طبعة (أخبار اليوم) العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربياً، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر". وقد زادت تلك العبارة من عزم عبلة وتصميمها على حوار أمل وتحدّي سياسة الجريدة: "فلماذا تأخذ الجريدة موقفاً من شاعر؟ بل كيف تأخذ الجريدة موقفاً من عقل الصحفي؟".
وبعد بحثها عن أمل في المقاهي الشعبية، وهي المكان المفضّل لدى الكتّاب والشعراء . تلتقي عبلة به، ويجري الحوار بينهما إنسانياً أولاً قبل أن يكون أدبياً: "قلت: كنت أظنك أكبر قليلاً. ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة ألكترا! ولم أُسْتَفز أيضاً، بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك".
وتضيف عبلة: "كان الانطباع الأول الذي كوّنته سريعاً؛ أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكاً آخر، بل ويحسّ أحاسيس أخرى. فمنذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والادعاءات والأقنعة، وبدا لي وجهُ صديق أعرفه من زمن".
تكمل عبلة حوارها الصحفي مع دنقل، الذي هو أول حوار وآخر حوار يُنشر معه في جريدة "الأخبار". وتتعمق العلاقة بين الاثنين، وتتوالى اللقاءات، ورغم محاولة دنقل ترك مسافة بينه وبينها، إلا أن عبلة تدرك أن هذه المحاولات ما هي إلا اعتراف صريح منه بدفق من العواطف التي تضطرب في قلبه تجاهها. وتكتشف في لحظة تأمل إنسانية أنها هي أيضاً تبادله تلك المشاعر: "قال لي في المرة الرابعة التي التقيت فيها معه، ومن دون أدنى مقدمات: يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة! حرّك هذا التحذير الاستفزازي انفعالاتي، فبدت عارية: أولاً أنا لست صديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي"، وتضيف: "من المؤكد أن أمل أحبني ، وأن غضبي لعبارته يعني أيضاً أنني أحمل له نفس المشاعر".
ووفقاً لمقولة "قل لي من صديقك أقل لك من أنت"، تشير الرويني في "الجنوبي" إلى العلاقات المركّبة التي جمعت أمل بأصدقائه، متوقفةً عند المنظور الإشكالي الذي كان دنقل يرى المحيطين به من خلاله: "إن الضعيف لا أصدقاء له، بينما القوي يتزاحم من حوله الأصدقاء".
فقد احتوت صداقات دنقل، كما توضح الرويني، على كثير من الأشكال المركبة. وكثير من أقنعة الحدّة، والمنازلات الملتهبة، والمشاحنات الكلامية، والمداعبات الشديدة. وقد "ظلت هذه العلاقات شديدة التركيب، حيث تبدو المداعبة حادة بينما يبحث أمل من خلالها عن نوع من الاطمئنان الكامل لا يجده دائماً، أو نوع من الفهم والحب له لم يوفره الآخرون، وربما لم توفره الأيام له شخصياً. ولهذا اتسمت علاقاته دائماً بمزاج ساخر، ومزاج حاد لا يحتوي شراً، بقدر ما يحتوي مرارة الأيام الطويلة". ومن أصدقاء دنقل المقربين، كما توضح الرويني، يحيى الطاهر عبد الله الذي وافته المنية إثر حادث سير ولم يشترك دنقل في مراسم غيابه وكان يقول: "إن يحيى خاص بي وحدي". والدكتور يوسف إدريس الذي جمعت دنقل به علاقة صعلكة، والشاعر نجيب سرور، وجابر عصفور، والكاتبة صافيناز كاظم التي كان دنقل دائم الاستفزاز لها.
أصبح مقهى "ريش" مكانَ اللقاء الدائم، وربما المفضّل، بين العاشقَين؛ أمل وعبلة. رغم ما كانت تبديه عبلة من تحفّظٍ تجاهه في البداية: "أقنعني أمل بالتخلي عن منطقي البرجوازي، وتلك الوثنية التي أمارسها تجاه الأماكن، فلا يوجد مكان نحبه، وآخر نكرهه، هناك فقط شخص يسعدنا الجلوس معه أو لا يسعدنا، وكانت كلماته منطقية وعادلة، فبدا (ريش) معه أجمل وأرقّ الأماكن التي تصلح للقاء عاشقَين".
كانت البرجوازية طريقةً تعيش عبلة في إطارها، لكنها أبداً لم تستحوذ على تفكيرها أو عالمها بالكامل. وهي لذلك كانت مستعدة، كما تقول، لأن تبيع العالم كله من أجل شاعر لم يكن يمتلك غير بنطلون واحد أسود ممزق. "كأن هذا الثقب الناتج من احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة، وكان أمل يحاول مداراته دائماً عن عيوني البرجوازية، بينما كنت أبحث دائماً عنه، وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة".
لم تكن العلاقة التي جمعت عبلة بأمل، والتي راهن الكثيرون على فشلها، علاقة عادية أو عابرة، ولذا لم يكن من الغريب أن تتّخذ هذه العلاقة فيما بعد، شكلَ الرباط الزوجي المتين، رغم ما كانا يواجهانه من معيقات مادية. يقول أمل: "إنني أتكلم عن راتب شهري يمكن أن يعول أسرة لا بدّ لها أن تأكل وتنام على الأقل. إن اختياراتي ليس عليكِ أن تتحملي تبعاتها وعذاباتها". فترد عبلة: "أمل.. إننا سنتزوج ليس فقط انتصاراً للحب، ولكن، انتصاراً لاختياراتك".
بعد زواجهما، باتا صديقَين لا زوجين، وخرجا على أشكال الزواج التقليدية، حيث أصبح الشارع بيتهما الذي يقضيان فيه جلّ وقتهما. وتصف عبلة علاقتهما الزوجية قائلة: "كان الحب في داخله، وكان التصاقي الشديد به يُشعره كثيراً بالقيد والتوتر والعبء النفسي أحياناً، ولعل مرد ذلك إلى إحساسه العميق الدائم بأنه لم يمنحني راحة، أو أن الحياة ذاتها لم تمنحنا استقراراً".
لم تكن هناك طقوس معينة تلازم دنقل أثناء كتابته للقصيدة، كما توضح عبلة التي رافقته في مشواره الإبداعي والحياتي، سوى توفر السجائر التي ظلت صديقة أمل المقرّبة حتى وفاته. كان مرض السرطان قد بدأ يغزو رئته: "قال له الطبيب: كفّ عن السجائر، قال: إن الكفّ عن السجائر لن يعوق السرطان الهادر في صدري، دعها فهي متعتي الأخيرة".
بدأ السرطان يأخذ من جسد أمل الناحل، فتزداد روحه تألقاً وجبروتاً. وكان يصارع الموت بعناد لا يلين. وكانت مأساة أمل، كما توضح عبلة: "أنه ظل قادراً على حمل البحر، بينما البحر لم يستطع أن يحمله.. أجمل سمكة نادرة في مياهه.. ظل دائماً يبحث عن التوازن الصعب داخل هذا العالم المتواتر والمرفوض حوله، وداخل هذا التناثر الحاد في كيانه حتى انفجر كل شيء.. وتمدد السرطان".
لقد بدأت معاناة أمل مع السرطان بعد مضي تسعة أشهر على زواجه بعبلة، وظل المرض يتمدد، لأن أمل وعبلة لم يكونا يمتلكان "ملّيماً" واحداً من أجرة الطبيب التي بلغت 300 جنيه. وفي ظل الحاجة المادية الملحّة، شعر الاثنان، بجبروت الفقر: "إنها المرة الأولى التي نعرف فيها قسوة الفقر.. المرض هو الحالة الوحيدة على هذه الأرض التي تحول الفقير إلى بائس حين يواجه قدره عاجزاً".
وتروي عبلة قصة علاج دنقل في معهد السرطان، حيث امتدت فترة العلاج لأكثر من سنة ونصف السنة، أعلن الأطباء بعدها، عن حتمية موت أمل. وتسرد عبلة هذه التجربة، بكثير من الحزن، قائلة: "نظر طبيب معهد السرطان إلى تحليل الدم الأخير، ودون أن يدري شيئاً عمّا نعرفه قال: للأسف الشديد لقد أكدت التحاليل إصابتك بالتراتوما، وهو أمر صعب، لم نكن نريده، لكننا سنبذل ما لدينا من أحدث طرق للعلاج". كانت ردة فعل عبلة على كلام الطبيب قوية جداً، ما اضطر الأطباء إلى إخراجها من الغرفة. بينما واصل أمل حديثه مع الطبيب: "لماذا كنتَ قاسياً معها إلى هذا الحد. كان يمكن أن تخبرني وحدي". لقد كان أكثر ما يخشاه دنقل ليس الموت، وإنما بكاء أمه وعبلة عليه.
كان أمل مريضاً استثنائياً، فقد تمت في جسده تجربة علاج إشعاعي هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، حصل فيها على أكبر نسبة إشعاع ذري مكثف تُعطى لمريض في جرعة واحدة. وخرج من تلك التجربة منتصراً، غير أن الأمر لم يدم طويلاً، إذ أصيب أمل في النهاية بغيبوبة: "هكذا أعلن أمل الموت، لكنه كطبيعته ما زال حتى النفس الأخير، يحلم بالمقاومة. في منتصف الليل، قبيل وفاته بساعات قليلة، زاره ناصر الخطيب مدير مكتب جريدة (الرياض) بالقاهرة. أيقظ أمل من غيبوبته، وهمس في أذنه باكياً: أمل قاوِمْ. فتح أمل عينيه، وبصعوبة في النطق أجاب: لا أملك سوى المقاومة. ثم راح في غيبوبة".
كثير من الأحداث اليومية والتفاصيل الحميمة، في علاقتها بأمل دنقل ضمّنتها عبلة في "الجنوبي"، كما تحدثت عن مشاكلهما وخلافاتهما التي كانت تزيد علاقتهما الزوجية والإنسانية متانة وصلابة. كما ضمَّنت عبلة في "الجنوبي" قصائد ألقاها أمل في مناسبات مختلفة، كانت تتوقف أحياناً لتنقدها أو تعلّق عليها، أو تشرح الموقف أو المناسبة التي قيلت فيها.
وأخيراً، فإن "الجنوبي" هو بمثلبة هدية حب ووفاء من عبلة الرويني إلى رفيق دربها أمل دنقل الذي لم ينجح الموت في تغييبه، وإنما حوّله إلى صوت قوي صافٍ تصدح الأجيال بشعره.
__________________